النظريات الخاصة بتجارب الاقتراب من الموت قتيبة صالح فنجان
|
النظريات الخاصة بتجارب الاقتراب من الموت
قتيبة صالح فنجان
انقسم الباحثون في دراسة وبحث هذه الظاهرة إلى قسمين، ففي القسم الأول انحصر البحث في دراسة طبيعة وصدق هذه التجارب وقد تباينت الآراء والنظريات حول هذه الظاهرة، فمنهم من عزا سبب حدوثها إلى خلل وظيفي في عمل الدماغ بسبب عوامل معينة منها نقص الكمية المطلوبة من الأوكسجين إلى الدماغ أو اعتبارها آلية دفاعية للدماغ يُسبّبها الخوف من الموت، في حين وصفها البعض الآخر على أنها حالات من الهلوسة.
ويكفينا في الرد على أصحاب هذا الرأي إجابة الدكتور بيتر فينويك (Peter Fenwick) الذي سُئل عما إذا كان هناك فرقًا بين الهلوسة وبين تجارب الاقتراب من الموت، فأجاب:
"يميل الناس إلى نسيان هلوساتهم، في حين يظل أصحاب تجارب الاقتراب من الموت يتذكرون وبوضوح شديد.
وإذا سألنا هؤلاء الناس عن طبيعة تجاربهم أثناء وجودهم في وحدة العناية المركزة، فسنكتشف أنهم قد حدثت لهم أمور تختلف في طبيعتها عن تجارب الاقتراب من الموت.
إن ما حدث لهم هو أنواع من الهلوسة، فيها الكثير من الوهم الناجم عن طبيعة ما يدور في هذه الوحدة، فهم يظنون عادة بالناس الذين من حولهم ظن السوء، فعلى سبيل المثال: شعرت إحدى المريضات أن كل شخص موجود في الوحدة هو ضدها، وأن الشياطين تعبث بها، وخُيّل لها أنها مشوية، لكن وبعد أن استعادت وعيها تبيّن لها أن سبب شعورها بالشواء هو البطانية الحارة التي كانت تلفها، ولم تكن تلك الشياطين سوى الممرضات اللائي كن يحقننها العلاج عن طريق الوريد.
والآن فإن تجارب مثل هذه ليس فيها شيء من الوضوح ولا يمكننا عدّها قصة مروية كما أنها تفتقر إلى ذلك التوحد النفسي والعاطفي الذي نراه في تجارب الاقتراب من الموت، لذا فإني أعتقد أنه أصبح بإمكاننا التمييز بين حالات الهلوسة الناجمة عن تغيّر في كيمائية الدماغ وبين تجارب الاقتراب من الموت، أنا أعتقد أنهما مختلفتان".[١]
أما القسم الآخر فقد ركز بحثه على ظاهرة تُعد من الظواهر المهمة، ألا وهي ظاهرة استمرار وجود الوعي الإنساني منفصلاً عن الجسد سواء إن كان هذا الانفصال موتًا دائميًّا أو مؤقتًا، وهم العلماء والباحثون الداعين إلى القول بأن هذه التجارب هي ظاهرة روحية يحصل فيها اقتراب من الموت وربما تكون مشابهة في كثير من مراحلها لحالات الموت الحقيقي.
لم ينصف المشككين أنفسهم والآخرين حينما أعلنوا أن هذه الظاهرة هي وظيفة طبيعية للدماغ تحدث ضمن ظروف معينة، متناسين أن جميع الظواهر الروحية، جميعها على الإطلاق لا تتم إلا عبر الدماغ وكما تفيد أحدث النظريات العلمية فإن الفص الأيمن هو المسئول عن هذه الفعاليات، ولكن هل نكتفي بمثل هذا التعليل معْرِضين عن مبدأ يقول بأن لمثل هذا الدماغ خالقًا أودع فيه الكثير من الأسرار التي تحيّر العقول وتشعرها بالعجز، وجعله آلة معقدة ودقيقة يمكن للنفس الإنسانية أن تستظهر قدراتها الإلهية الخارقة من خلاله، لكننا لم نصل بعد إلى ذلك ولا يزال أمامنا الكثير، ولا يغيب عن أذهاننا كيف أن العقل الباطن يقيم عملية اتصال مع العوالم الروحية الأُخرى، نحصل فيها على كثير من الحقائق والنبوءات وهو المعّول عليه في استمرار وعي وحياة الإنسان بعد الموت، فالدماغ هو الجهاز المعقّد والمحيّر والذي لم يكتمل اكتشاف الكثير منه إلى الآن، والأمر موكول إلى المستقبل كما نقلت إلينا الدكتورة شفيقة قرة كل ذلك في كتابها (خوارق الإبداع):
"ومن الأفكار المثيرة للاهتمام، في هذا المجال، ما يقوله مشرحي الأعصاب من أن هناك مناطق في الدماغ لم تقم بوظيفتها لحد الآن، ولكن هذه المناطق قد هيأتها الطبيعة لمراحل مستقبلية من التطور، حقًّا إنها فكرة تثير الاهتمام.".[٢]
إن اكتشاف مناطق الدماغ المجهولة والوظائف المتعلقة بها، يشبه لعبة الكلمات المتقاطعة، فلن ننتهي من استكمالها ما لم نملأ جميع الفراغات بالحروف المطلوبة.
وتشير بعض الدراسات إلى أن البشر في مراحل قديمة لم يكونوا يرون جميع الألوان حسب ما أظهرته الرسومات الموجودة في بعض الكهوف المكتشفة وهذا يدل على عدم استكمال عمل العديد من مناطق الدماغ المسئولة عن تمييز الألوان.
وفي مقال له، يتحدث الدكتور (كين رنك، Ken Ring) عن بعض العناصر المكونة لهذه التجارب وتجارب الخروج من الجسد، ليؤكد إمكانية وجود الوعي الإنساني بعيدًا عن الجسد، عندما يتراءى بعض أصحاب هذا النوع من التجارب، لأحبائهم أثناء التجربة، الأمر الذي يعتبر من الأدلة الحاسمة على صدق هذا النوع من التجارب وأن للنفس البشرية قوى في حاجة إلى الكثير من البحث والتبصر، لكن ليس ضمن قوانين العلم العاجزة عن إدراك كنه النفس وقواها.
يقول"رنك":
"عندما نأخذ بعين الاعتبار أن أصحاب هذه التجارب، عندما يكونون خارج أجسامهم فإنهم يشهدون أحداثًا حقيقية تحدث بعيدًا عن أجسادهم الميتة، إن أهم تلك الظواهر هي رؤيتهم لأشياء غيبية تتحقق بعد مدة على الأرض، لقد تم توثيق العديد من المحادثات التي تمت مع هؤلاء والتي تحققت في المستقبل.
كذلك لمسنا ظاهرة هي أكثر أهمية من تلك الظواهر، عندما يتراءى صاحب التجربة لشخص ما وعادة ما يكون الشخص الذي يحب، إن مثل هذه الظاهرة تضطرنا إلى الاقتناع بإمكانية وجود الوعي بعيدًا عن الجسد."
ومن الباحثين المهتمين بإثبات إمكانية وجود الوعي بعيدًا عن الجسد، هي الباحثة (جين ريتشي، Jean Ritchie) التي استعرضت في كتابها (بوابة الموت) [٣] العديد من النظريات التي تحاول تفسير تجارب الاقتراب من الموت قائلة:
"من المهم لنا أن ندرك أنه بالرغم من أن آلية عملية الموت يمكن حصرها في الدماغ، إلا أن هذا يثبت لنا أن عملية الاقتراب من الموت هي مجرد رؤية ينتجها الدماغ وهو على مشارف الموت، لكن العلم لم يتمكن من إثبات مثل هذا الأمر لوجود عدد كبير من الأدلة الظرفية التي تشير إلى إمكانية وجود الوعي بعيدًا عن الجسم، وفي نفس الاتجاه لم يتمكن العلم من الإثبات بأدلة علمية حالة استمرار الوعي بعد الموت، يعتقد الكثير من الناس وأنا منهم أنها مسألة وقت.
لا يحتاج الباحثون في مثل هذه التجارب إلى إثبات أي شي وبحوزتهم الكثير من الأدلة الظرفية لكن العلماء بحاجة إلى أن يقدموا تفسيراتهم في حالة ادعائهم عدم إمكانية استمرار الوعي بعد الموت.
تفترض إحدى النظريات المعاصرة أن الوعي أشبه بإشارة تلفازية موجودة في موجات الهواء، وأن عدم وجود الدماغ داخل الجمجمة، يشبه تمامًا عدم وجود جهاز التلفاز الضروري لإنتاج الصور على الشاشة (كيمياء الدماغ)، حيث تقدم في برنامج تلفازي تجربة الاقتراب من الموت.
إن النظريات العلمية تدّعي أن مثل هذه التجارب هي من إنتاج جهاز التلفاز، وهذا غير صحيح، لأن البرنامج التلفازي هو نتاج عمل الإشارة التلفازية وجهاز التلفاز.
تنص بعض الادعاءات العلمية على أن الموت هو نهاية الوعي، كانتهاء الإشارة التلفازية حين نطفئ جهاز التلفاز."
وفيما يلي بعض النظريات العلمية المطروحة في ساحة البحث، لأجل الوصول إلى تفسير علمي يتوافق مع ما تنتجه هذه الظاهرة من أمور خارجة عن التفسيرات العلمية.
١. نظرية الدماغ المحتضر Dying Brain Theory.
من الباحثين الذين تبنوا هذه النظرية، هي الدكتورة سوزان بلاك مور Susan Blackmore، في كتابها نموت لنحيا Dying To Live. تقول الدكتورة بلاك مور أن أحد العناصر القوية التي تعزز من الإيمان بعالم ما بعد الموت ويقيم الدليل على واقعية تجارب الاقتراب من الموت، هو أيضًا، أحد نقاط الضعف المأخوذة عليها.
في الحقيقة إن جميع الذين حدثت لهم تجارب الاقتراب من الموت، يتبعون نفس الطريق تجاه النور، ويقطعون المراحل نفسها في طريقهم هذا، فيخلق حالة قوية لجميع الموجودات، بأنهم سيسلكون رحلتهم العميقة إلى العالم الآخر، في أي مكان كانوا، ومن جميع الأعمار والثقافات وسُيرحب بهم هناك.
لكن تلك المسألة "دليل التشابه" يمكن أن يعتمد عليها كحجة قوية في النقاش تضعف من حقيقة تجارب الاقتراب من الموت، فلا تمثل رحلة روحية، ولكن وظيفة الدماغ المحتضر هي واحدة في جميع الأدمغة وهي تموت بنفس الطريقة جميعًا، بغض النظر عن العوالم التي تنتمي إليها، كما يقول المشككون، وهذا يفسر لنا تشابه الجوهر الأساسي للعناصر في هذه التجارب، وإن سبب ذلك لا يعود إلى الرحلة التي يقوم بها الشخص المحتضر إلى عالم الآخرة، بل إلى التوقف الحاصل في جهاز الإرسال الموجود في الدماغ فيخلق نوع من الأوهام الرائعة لجميع الذين يكونون على مقربة من الموت.
ولكن.. لماذا؟
لماذا يقوم الدماغ المحتضر بمثل هذا العمل، فهو ليس أكثر من مجرد كتلة معقدة من الأنسجة؟
إن هذا واحدًا من الأسئلة الهامة في التفكير الإنساني بشكل عام، فهو يجعلنا نتساءل، عن أنفسنا كأفراد، تمتلك شخصيات وأرواح وعقول وأنها خاصة بنا؟
أو أننا مجرد أجساد بسيطة تسيطر عليها أجهزة ذكية من الحواسيب، أو أدمغة تختلف قليلاً في عملها عن بقية الموجودات، الأمر الذي يجعل كل واحد منا لا نظير له.
لقد انقسم العلماء والباحثون، فبعضهم يريد أن يقتصر مسألة تجارب الاقتراب من الموت، على أنها مجرد سلسلة من ردود الفعل للدماغ، في حين يذهب الآخرون الذين يتقبلون هذه التجارب على أنها أمر واقعي وصحيح وأنه ليس هنالك شيء أكثر أهمية من وضعها في السياق العلمي.
وبمعنى آخر إنهم لا يخشون بحث المسألة بشكل دقيق، لمعرفة نتائج جميع الأشياء المتعلقة بها، والإمكانية على توضيح المجالات الخاصة بها، إنهم يودون بسعادة أن تستمر المجالات العلمية مع الحياة الشخصية العميقة للتعزيز بالأدلة لأولئك الذين كانوا هناك.
هناك قليل من الناس وبضمنهم المشككون، ينفون حدوث تجارب الاقتراب من الموت للناس، لكنهم تأثروا بشدة لأنهم قد لاحظوا الكثير من الناس سليمي العقول والمتزنين، الذين عادوا من هذه التجارب وتحدثوا عما حدث لهم هناك.
فكان ما فعلوه هو الجدال حول سبب هذه التجارب وما الذي تعنيه، فاتخذ البحث اتجاهين أساسيين:
أحدهما اتخذ من العوامل النفسية وسيلة للوصول إلى الأسباب التي تدفع بالإنسان للتصرف بهذه الطريقة، وإمكانية حصولها بسبب حالات من الهلوسة.
أما الاتجاه الثاني فيعتمد على التفسير الفسيولوجي، الذي يبحث عن ذلك الجزء من الدماغ الذي يُتلف أو يصاب بالخلل فيسبب تجربة الاقتراب من الموت، واستمر هذا الاتجاه في جميع الأبحاث الخاصة بالدماغ، وليس فقط تلك المتعلقة بتجارب الاقتراب من الموت.
إن الحجة العقيمة الجافة التي تقول بأن تجارب الاقتراب من الموت هي نتيجة لبداية موت للدماغ، غير مقبولة عند الغالبية العظمى من الناس الذين حدثت لهم مثل هذه التجارب، فالتقليل من العمق والتحول الموجود في التجربة وجعلها أمر لا أهمية له، هو أمر أكثر من غلق جهاز الإرسال الموجود في الدماغ، كمن يرى في لمحة أن تمثال النبي داؤود لمايكل أنجلو ليس أكثر من مجرد عدة أطنان من الرخام.
فإن لم تكن هناك حياة بعد الموت، وما تجارب الاقتراب من الموت إلا آخر صرعات الدماغ المحموم والمحتضر، فما الذي يزعجنا في ذلك؟
إذا كان كل شيء، بضمنه الروح والشخصية يتحول إلى تراب ورماد، فلماذا يُري الدماغ في مراحل حياته الرائعة الأخيرة، أولئك الذين على مقربة من الموت أو يواجهون موتًا حقيقيًّا والذين يسترخون بسلام؛ لماذا يريهم رؤاهم الجميلة؟
وإذا كانت تجارب الاقتراب من الموت مجرد هلوسة، فلماذا أُخبر عدد كبير من الناس أثناء تجاربهم بهذه الرسالة "إن مهمتكم لم تكتمل بعد" أو "لم يحن وقت موتك بعد"
وإذا كانت تجارب الاقتراب من الموت مجرد هلوسة، فكيف نفسر أن عددًا كبيرًا من الناس أُخبروا بنفس الشيء أثناء هلوساتهم؟ أليس من الغريب أن يُخبر الناس الشيء نفسه؟
هل إن لجميع الهلوسات إجابات متطابقة، بات من السهل الإيمان عند كثير من الناس، بأن تجارب الاقتراب من الموت هي تجارب حقيقية للعالم الآخر وليست هلوسة.
٢. نظرية الهلوسة Hallucination Theory.
يعتقد بعض العلماء من المعسكر الذي يؤمن بإمكانية تفسير تجارب الاقتراب من الموت يومًا ما، على أنها عمل وظيفي للدماغ، ناجم عن إفرازه لهرمون الأندورفين، الذي يؤثر على مركز الجهاز العصبي لتخميد الألم، كما يُفرز عند عدائي المسافات الطويلة، بعد أن يقطعوا أشواطًا طويلة، ليجدوا أنفسهم يركضوا بسهولة دون الشعور بالألم أو التعب، ويغمرهم الشعور بالبهجة.
لكن الإشكال هنا أن الأندورفين لا يسبب الهلوسة كما لا يمكنه أن يخلق حالة مشابهة لتجارب الاقتراب من الموت. نعم ربما يكون داخلاً في عملية إخماد الألم ولكنه غير مسئول عن إنتاج التجربة بأكملها.
إن البحث في جهاز الإرسال والاستقبال هو عملية بالغة التعقيد، حسب فهمنا لطبيعة عمل الدماغ، وكان من المعروف أن مادة قوية مخدرة تسمى بالكيتامين Ketamine، يمكنها أن تنتج بعضًا من ملامح تجارب الاقتراب من الموت، وبشكل خاص في تجارب الخروج من الجسد، وتذهب إحدى النظريات إلى القول بأن مادة الكيتامين ربما تساعد على التحرر من الجسد أثناء تجربة الاقتراب من الموت وتعيق عمل جهاز الإرسال والاستقبال وتصبح مسئولة عن تجربة الاقتراب من الموت بعد إيقافها لعمل المستقبلات.
لقد رفض الدكتور رونالد سيغال Dr. Ronald Siegel أحد الأساتذة النفسانيين الأهمية الروحية والمعنوية لتجارب الاقتراب من الموت، مدعيًا أنه يمكنه إنتاج مثل هذه التجارب في مختبره، بإعطائه عقار (ل.س.د) للمتطوعين.
لكن الباحثين الآخرين، يقولون أنه بالرغم من أن هذا العقار ينتج هلوسة مشابهة لتجارب الاقتراب من الموت، لكنها ليست نفسها، لسبب واحد وهو أن هذا العقار المنتج للهلوسة، غالبًا ما يخلق حالات من الخوف و التظنن، وهي غير موجودة في تجارب الاقتراب من الموت على وجه العموم. فالعقار يُنتج حالة من الهلوسة تشوه الواقع، في حين وصف لنا أصحاب تجارب الاقتراب من الموت واقعًا أسمى.
هنالك أيضًا العديد من الدراسات الكثيرة حول تأثير العقاقير المخدرة كالماريجوانا و(ل.س.د) أو الكوكايين والهيروين والمورفين والمسكالين، التي تقول أن تناول مثل هذه العقاقير قد يؤدي إلى حدوث مثل هذه التجارب، لكن في واقع مشوّه غير مترابط العناصر وبضمنهما عنصري الزمان والمكان، ولكن واقع تجارب الاقتراب من الموت لا يعكس مثل هذا النوع من التشويه أو الاضطراب الذي يمكن أن يحدث للإنسان عند تناوله هذه العقاقير حيث يدخل مرحلة أخرى من الوعي يدعوها الأطباء النفسانيين بما وراء الوعي، "وفي خلال السنوات العشرين الأخيرة منذ اكتشاف مادة المسكالين Mescaline وبعدها لمادة (ل س د LSD 25) تبيّن أن استعمال هاتين المادتين في ظروف تجريبية يؤدي إلى تحسس الفرد بإحساسات غريبة لم يجربها في الماضي ومنها التداخل الحسي الذي يمكنه من أن يدرك الحس على غير صورته فيسمع ويرى الصوت مثلاً، كما أن الزمن بالنسبة له يصبح أمرًا منفصلاً، وقد يُصاب بشعور التجرد عن ذاته إلى غير ذلك من الاضطرابات.
وقد لوحظ أن ردود الفعل لاستعمال هذه الأدوية غير متساوية وأنها تختلف بين فرد وآخر تبعًا للإمكانيات الشخصية لكل فرد.".[٤]
إن رأي الدكتور علي كمال حول اختلاف ردود الأفعال الناجم عن استخدام هذه العقاقير، يعزز الرأي القائل بأن تجربة الاقتراب من الموت أو الخروج من الجسد هي أمر غيبي ولا يمكن إنتاجها بتناول عقار ما، فالتوحد النفسي والعقلي الموجود في هذه التجارب والاشتراك في كثير من العناصر الموجودة في هذه التجارب، حتى اضطر بعض الباحثين إلى تسميتها بالنمطية المتكررة التي تكون على النقيض التام من ذلك الاختلاف في ردود الأفعال الذي تكلم عنه الدكتور علي كمال بين متعاطي هذه الأنواع من العقاقير المهلوسة.
هنالك عقارًا آخر له القدرة على خلق حالات تشبه الحالات التي نراها في هذه التجارب، كما يذهب إلى ذلك بعض الباحثين. ولكن من المهم القول أن الدكتور (كارل جانسين، Karl Jansen) وهو أحد الباحثين في تأثير عقار الكيتامين لا يعتقد أن الرؤى التي يُنتجها مثل هذا العقار مشابهة لتلك الرؤى التي تحدث أثناء تجارب الاقتراب من الموت، فالرؤى الناتجة بسبب تناول هذا العقار تكون شاذة وغريبة مملوءة بشكوك لا نراها في تجارب الاقتراب من الموت.
يروي لنا الدكتور كارل جانسين في كتابه "كيتامين Ketamine" التجربة التالية:
"أدركت نفسي كحيّز من الوعي والطاقة يطفو وسط غرفة واسعة جدًّا، وكنت أشعر بحضور كامل حولي كما لو كنت محاطًا بالملايين من الآخرين، ورغم ذلك لم أتمكن من رؤية أحدهم وكان في وسط الغرفة لونًا أزرق كبير قد تشكل في صورة هندسية، بعد ذلك عدت فجأة إلى جسدي، حيث كنت أرقد على الفراش. أوه…لقد انتهى كل شيء، كما ظننت، فجأة حاولت الجلوس، لكني شعرت بجسدي وهو يذوب مرة أخرى في الظلمة والعدم وشعرت بنفسي وهي تُسحب من أسفل قدميّ، كحيّز غطّاه السحر بعباءته في واحدة من خدعه السحرية."
ويعلّق الدكتور بيتر فينويك، على هذه التجربة قائلاً:
"عندما نسأل الذين مروا بتجارب الاقتراب من الموت "هل هذه التجربة تشبه تجربتكم؟"
سيقولون، "كلا، إنها لا تشبه تجربتنا، نعم قد تكون هناك بعض الخصائص المشتركة، ولكن هناك أيضًا الكثير من الخصائص المختلفة تمامًا"
حسنًا، رغم أن الكيتامين هو النموذج الأفضل والمرشح لدراسة وتقييم تجارب الاقتراب من الموت في حالات السكتة القلبية، لكنه لا يمكنه أن يفسر لنا كل ميزة في تجارب الاقتراب من الموت.
كما أني لست متأكد من أننا سنفهم بصورة تامة، كل تجربة الاقتراب من الموت أثناء السكتة القلبية، حتى لو قلنا أن تجربة الاقتراب من الموت، تشبه تجربة الكيتامين، لأننا نتجاهل المشكلة التي تتعلق بزمان حدوث التجربة، وإن الطريقة الوحيدة التي يمكننا عبرها الحصول على إجابة لهذا السؤال، هي من خلال تجارب الخروج من الجسد.".[٥]
٣. نظرية الفص الصدغي Temporal Lobe Theory.
لقد تم التعّرف على أن بعض ملامح تجارب الاقتراب من الموت تحدث مع حالة من الصرع المتزامنة بحدوث الضرر في الفص الصدغي من الدماغ، واكتشف الباحثون أنه من الممكن إنتاج بعض عناصر تجارب الاقتراب من الموت، من خلال تحفيز هذا الفص الدماغي بالكهرباء، مثل أن يترك المرء جسده ويرى ومضات من صور الماضي، وهذه هي أكثر العناصر شيوعًا لتجارب الاقتراب من الموت، إنهم يعتقدون أن الضغط الناجم عند الاقتراب من الموت أو التفكير بأنك على مقربة من الموت، ربما قد يسبب بطريقة ما تحفيزًا لهذه المنطقة من الدماغ.
توجد بعض الأدلة التي تدعم هذه النظرية، في بعض التجارب القليلة، التي أفاد بها أُناس عانوا من جلطات أثرت على هذا الجزء من الدماغ، أو أُصيبوا بورم خبيث في المنطقة نفسها.
ولكننا نواجه أيضًا حالة تقف ضد هذه النظرية، فالصفات الانفعالية الناتجة من عملية التحفيز للفص الصدغي، هي الخوف والحزن والشعور بالوحدة وليس المحبة والسلام الموجودة في تجارب الاقتراب من الموت.
وعلى الرغم من وجود بعض العوامل المشتركة، كالشعور بالسعادة والقدرة ومعاني الموت والإماتة، لكن الناس الذين جربوا كلتا الحالتين في أوقات مختلفة، صرحوا بأنه ليس من شك أن هنالك فرقًا كبيرًا بين الحالتين.
إن الهلوسة سواء كانت ناجمة عن تأثير لعقار ما أو نتيجة لدواء معين، أم بسبب الحرمان من الأوكسجين، فهي تحدث أثناء وعي المريض وصحوته، في الوقت الذي تحدث فيه تجارب الاقتراب من الموت أثناء حالات اللاوعي، وفي بعض الأوقات التي يكون فيها المريض قريبًا جدًّا من الموت، حين لا يسجل جهاز التخطيط للفعاليات الدماغية أية إشارة، في الآلة التي تراقب موجات الدماغ.
أيضًا فإن الحالات الطبية تأخذ المريض إلى حافة الموت، ولحدوث تجربة اقتراب من الموت فليس من الضروري أن يكون هنالك نقص في كمية الأوكسجين أو أي تأثير لعقار ما، وهذا ما يحدث لضحايا الحوادث بشكل خاص.
إن تجربة الاقتراب من الموت تحدث في اللحظة التي يحصل فيها تهديد مباشر بالموت، وليس من الضروري في وقت آخر، كأن تكون بعد ساعة مثلاً، حينما يكون الموت قريبًا جدًّا فيحرم الدماغ من الحصول على الأوكسجين.
٤. نظرية نقص الأوكسجين Lack of Oxygen Theory.
هناك محاولة أُخرى لتفسير ظاهرة هذه التجارب، ألا وهي عزوها إلى النقص الحاصل في كمية الأوكسجين الموجودة في الدماغ، أو ارتفاع نسبة ثاني أوكسيد الكربون.
ولكن مثل هذه النظرية لا توضح لنا السبب الذي يجعل بعض المرضى قادرين على الإفادة بتقارير واضحة عن أشياء جرت معهم أثناء التجربة.
لقد حدثنا الدكتور مايكل سابوم Dr. Michael Sabom، أخصائي الأمراض القلبية، عن مريض كان يراقب طبيبه أثناء التجربة وهو يقوم بفحص دمه الذي يدل على وجود نسبة عالية من الأوكسجين وأخرى منخفضة لثاني أوكسيد الكربون.
وفي مقارنة بين تجارب الاقتراب من الموت والهلوسة الناتجة تحت كمامة الأوكسجين، يُظهر لنا الدماغ أن الحالة الثانية، هي نوع من الفوضى وهي شبيهة جدًّا بالهلوسة الذهانية، كالشعور بالحيرة وفقدان الإحساس بالزمان والمكان والصفة النمطية الغالبة للخوف، إذا ما قورنت بالسكون والهدوء والشعور بالنظام في تجارب الاقتراب من الموت.
٥. نظرية الحرمان أو التجرد من الشخصية Depersonalization Theory.
إن أول محاولة عصرية لتفسير ظاهرة تجارب الاقتراب من الموت وفق المنظور النفسي، ظهرت في سنة ١٩٣٠، على يد عالم نفساني ادعى أنه عندما يكون الناس في مواجهة الواقع المكدر للموت أو المرض، يحاولون استبداله بخيال يسرهم، لحماية أنفسهم، لذا فهم يجردون أنفسهم من أنفسهم، ويحدث ذلك عبر ارتفاعهم فوق أجسادهم وكما أفاد بذلك أصحاب هذه التجارب.
لا تزال هذه النظرية بحاجة إلى مزيد من التمحيص، ويمكن معارضتها بالحقيقية التي تجعل من بعض عناصر تجربة الاقتراب من الموت، غير منسجمة مع هذه النظرية، مثل المشاعر الروحية والدينية القوية وازدياد اليقظة والإدراك.
٦. نظرية ذكرى الولادة Memory of Birth Theory.
لا تتعامل هذه النظرية مع الموت على الإطلاق، بل مع ذكريات الولادة، فعندما يولد الطفل يُغادر الرحم ويتجه أسفل النفق حيث النور، وأن ما ينتظره عند ذلك النور، يكون عادةً كمًّا عظيمًا من الحب والدفء.
إن ما يحدث عند الموت هو استعادة لتلك الذكريات المخزنة، عند بداية الحياة.
يوجد أيضًا الكثير من النقاط التي لا يمكنها أن تتماشى مع هذه النظرية، فالطفل مثلاً لا يعوم بسرعة وهو يتجه إلى أسفل النفق، بل يظل يواجه صعوبات بسبب تقلصات الرحم، كما لا يمكن لهذه النظرية تفسير اللقاء بالأصدقاء والأقارب المتوفون.
وتفترض هذه النظرية أن الكائن النوري، هو القابلة، والطبيب في غرفة الولادة، لكننا نجد الكثير من الأطفال قد وُلدوا، دون أن يحضرهم أي طبيب أو أية قابلة وربما من دون حضور العديد من الناس، كما أن الجهاز العصبي للطفل ليس متطورًا بشكلٍ كافٍ، حتى يستطيع تمثيل وتخزين ذكريات الولادة.
ويحاول أصحاب هذه النظرية القول، بأن مشاعر السلام والبهجة هي ذكريات السلام أثناء وجوده في رحم الأم، حيث تلبي كل حاجاته الطبيعية، كما لا وجود هناك للتوتر والإجهاد.
لكن لماذا لا تكون هذه المشاعر، مشاعر البهجة والسلام، هي نوع من الراحة من ألم المرض أو الجرح في لحظات الموت؟
على أية حال، فإن الولادة ليست تجربة ممتعة في أغلب الأحوال، حين يغادر الأطفال وهم يبكون كما لو كانوا يعانون آلامًا مبرحة.
وعلى النقيض من ذلك، توصف تجارب الاقتراب من الموت في أغلب الأحوال على أنها أكثر التجارب متعة وسعادة، يمكنها أن تحدث للإنسان، بينما عملية الولادة غير ممتعة.
٨. نظرية الحياة الآخرة Afterlife Theory.
يقول الدكتور ميلفن موريس Dr. Melvin Morse، الذي أسس أرضية البحث في تجارب الاقتراب من الموت عند الأطفال، "أنه ليس هناك من تفسير لذلك النور"
كما يقول الدكتور كين رنك Dr. Ken Ring والذي يُعد أكثر الباحثين في تجارب الاقتراب من الموت جدارة بالاحترام، وأحد الذين انتهجوا دراساتهم ضمن المنهج الأكاديمي:
"يجب على أي تفسير له علاقة بالجهاز العصبي، أن يكون قادرًا على أن يُظهر لنا، كيفية ارتباط جميع عناصر هذه الظاهرة مع جوهر التجربة، كحالة الخروج من الجسد، المعرفة الخارقة، النفق، النور الذهبي، صوته أو حضوره، ظهور الموتى من الأقارب، المشاهد الرائعة، وغيرها من الحالات، فهي تحدث جميعًا ضمن طراز ذاتي، نتيجة لاستجابة عصبية أُثيرت عند الاقتراب من الموت… أنا أدعوا إلى مناقشة هذا الكم من الأدلة التي نقلناها لأولئك الذين يرغبون بتفسير تجربة الاقتراب من الموت بهذه الطريقة."
إن هذه العبارات، هي مجموعة من العبارات المعقدة، يحاول فيها د. رنك، القول بأن هناك الكثير جدًّا من العناصر الثابتة في تجارب الاقتراب من الموت، التي يصعب تفسيرها، على ضوء العمل الطبيعي للدماغ، ويعتقد بأن الأدلة قوية جدًّا، بحيث ترفع عن كاهل الباحثين المتعاطفين معها عبء إثباتها، في الوقت الذي لا تثبت فيه شيئًا للمشككين.
تدقيق لغوي: أحمد حسن، السودان.
ahmedhassanahmedzero@gmail.com
[١] العلم والروحانية: تحدّي القرن الواحد والعشرين Science and Spirituality: A Challenge for the 21st Century.
[٢] خوارق الإبداع، ص٢٣ مطبعة دار الحكمة، ترجمة سلمان يعقوب العبيدي.
[٣] Ritchie Death s Door-Jean.
[٤] النفس، انفعالاتها وأمراضها وعلاجها، ص٦١، ج١، ط٤، الدكتور علي كمال. مطبعة الدار العربية.
[٥] العلم والروحانية: تحدّي القرن الواحد والعشرين Science and Spirituality: A Challenge for the 21st Century.