تجربة
جوانا
|
وصف التجربة
دعوني أخبركم قليلا عن
نفسي قبل أن أبدأ . أنا سيدة أبلغ الآن من العمر أربعة و ستين عاما . أعيش لوحدي مع
كلبي و قطتي . لدي عجز و عوائق متعددة تبقيني في المنزل معظم الوقت . أيامي إما
جيدة أو سيئة ، و هذا متعلق بمدى التأثير الذي تتركه علي إعاقتي . أعيش مع بعض
الأنواع من الآلام المزمنة كل يوم ، من وقت استيقاظي و حتى وقت ذهابي الى السرير .
وبما أنني عنيدة ، فأنا أرفض الاستسلام للألم أو للمرض ، و أعيش فقط للأفضل و بأقصى
ما أستطيع لذالك اليوم . لدي مساعدة صحية منزلية التي تزورني هنا مرتين في الأسبوع
. هي شابة ، لذلك أعيد عمل معظم أعمالها في نهاية المطاف ، و لكنها تتحسن مع مرور
الوقت . ابنتي ستكمل عامها الرابع و العشرين هذا الشهر و استطاعت أن توفر لنفسها
حياة جيدة منذ أن تركت زوجها المتعسف قبل بضعة أشهر. وجودي اليوم راجع لحاجتها إلي
و هي تكبر يوما بعد يوم. ولا يوجد أي سبب آخر لوجودي هنا اليوم . في الماضي، كان
الانتحار شيئا قد خططت له ووصولا إلى الوقت الذي كنت على وشك الاقدام عليه . علمت
أنه طالما كانت تعيش حياتها المستقرة لدرجة أنها لم تعد بحاجة إلي ، كنت على وشك أن
أضع حدا لحياتي . تعلمت درسا و أود أن أشاركه معك ، أتمنى أن يستفيد منه شخص ما.
بدأت حالتي تسوء في
أواخر 1980 ،ولكن جسديا بدأت حوالي 1983 من داخلي ، حوالي 1985 كنت في المستشفى بعد
أن أصبحت غير قادرة على الوقوف أو المشي بسبب إصابة تلقيتها في ظهري عندما كنت ألعب
البيسبول سنة 1981. و كنت قد أخبرت بأنه من الممكن أن لا أمشي على قدماي مرة أخرى.
كنت قد طُلقت في ذالك الوقت و أسعى لتربية ابنتي . انتهى بي الأمر بأنني لم أعد
قادرة أبدا على الإبقاء على وظيفتي بسبب مرض أو آخر . وجدت نفسي في الإنعاش و غير
قادرة على الحراك بثاثا . و بمضي السنين يزداد مرضي سوءا . في سنة 1987 خسرت أربعة
و خمسون باوندا من وزني في فترة تقارب ثلاثة أشهر . لم يستطع أي طبيب أن يفهم ماذا
حل بي على الإطلاق . أخيرا و في أواخر
سنة 1990 قمت بإجراء فحوصات طبية و تم إخباري بأنه لا يوجد أي علاج أو جراحة يمكنها
أن تساعدني. ليس معلوما ما لدي ، إذن يجب علي أن أعيش حياتي بشكل أفضل قدر ما
أستطيع. لم تساعدني المداواة . أنا أخبركم بهذا إذ عندما سيجري الحديث حول الاكتئاب
ستفهمون لماذا لدي رغبة عميقة بوضع حد لحياتي . بسبب مرضي تعرضت للكثير من الإذلال
و الخزي . أن أكون شابة كما كنت آنذاك و أن لا أقدر على عيش حياة طبيعية جعلني أشعر
كما لو أنني لن أحظى بالحب في حياتي أبدا ، اذن في الوقت الذي كانت ابنتي ستنتقل
فيه للعيش بمفردها كنت سأبقى لوحدي . لا أحد سيرضى بشخص لديه مشكل واحد من بين
المشاكل التي أعاني منها ، فما بالك بجميع تلك المشاكل .
سنة 1992 ، تم نقلي الى
المستشفى على متن سيارة اسعاف . تم إخباري في غرفة الطوارئ اني كنت أعاني جراء سكتة
قلبية . الطبيب و الممرضات كانوا متتفاجئين قليلا من هذا ، للأني كنت فقط أبلغ من
العمر سبعة و ثلاثين عاما ، كنت بيضاء ، و كنت سيدة بدون ارتفاع في ضغط الدم أو
زيادة في الكوليسترول . فجأة ، بدأت بالبكاء لأني لم أكن أريد أن أفارق الحياة -
كان الموت قد بدء يخيفني. في وحدة العناية المركزة ، كان أقربائي يأتون و يذهبون .
لم أكن أدرك في أي مظهر سيء كنت . زوجي السابق ظهر في الغرفة رفقة ابنتي . أخبرني
بأن لا أقلق على ابنتي ، لأنه سيعتني بها جيدا هو و زوجته لأنهما أحباها كثيرا .
كان هذا كل ما أتذكر من تلك الزيارة . لما كان زوجي يخبرني بذالك ، كنت أشاهد آنذاك
شيئا يشبه الطلاء الأبيض شرع في تغطية الباب الذي يقابلني . كان يتحرك من الأسفل
إلى الأعلى . قام ذالك الشيء بتغطية المكان كله ببطء فكان الشيء الوحيد الذي كان
بإمكاني رؤيته آنذاك هو النقاء ، و البياض الناصع أنصع بياض رأيته في حياتي كلها .
كانت ابنتي قد أخبرتني بأنه في ذالك الوقت الذي كانت هناك رفقة والدها ظنت أني
استغرقت في النوم لكن فجأة سمعت جهاز القلب قد أطلق صفارة طويلة ، و أصبح ذالك الخط
مستقيما . تراجعوا للخلف ، و تجمع حولي فريق من حوالي خمس أفراد ، يخبرون بعضهم
البعض بما يجب فعله و الإقدام عليه . قاموا بإغلاق الستار ، و آنذاك كانت قد شاهدت
شخصا يدخل إلي و في يديه مجداف لكي يجدف به على صدري . كانوا قد طلبوا منهم أن
يبقوا منتظرين في ركن الانتظار . وتمت مرافقتهم الى هناك خارج غرفتي و تم إخبارهم
أنه سيأتي شخص ليخبرهم بما يجري بأقصى سرعة يستطيعون .
إبان ذالك ، كنت محاطة
بأفضل شعور شعرت به في حياتي كلها. وكنت منغمسة أكثر و أعمق في ذالك الشعور الذي
انتابني . لم أرى أبدا أو حتى تخيلت مكانا بذالك القدر من النقاء و السلام . الصفاء
و النقاء و الهدوء ، كانت كلها متواجدة في ذالك المكان . بإمكاني الاستنتاج أنه لا
وجود لأي مرض أو ألم أو أي معاناة من أي نوع مرضي هناك . لا شيء سلبي يتواجد في
مكان ما من المنطقة أبدا . لا شيء سيئ أو خبيث . بكثر ما أنظر حولي ، تبدو لي
الأشياء رائعة . أتذكر شعوري و أنني قلت بصوت عال "وااو" لأني كنت متعجبة و مستغربة
. و بتطلعي أكثر للأمام ، رأيت بياضا أنعم مما رأيت في أي وقت مضى . كان منتشرا على
بعد ما يمكن أن تراه عيناي . و يترآئى لي أنه ينتشر على عدة أميال من الطول و العرض
. كنت مستمتعة ، و استمريت في التطلع للأمام ، و بدأت أرى ضوئا رمادي-أزرق اللون في
الجزء السفلي من ذالك البياض الناعم . كلما اندفعت للأمام ، كلما بدأت أرى أن ذالك
اللون هو في الحقيقة عبارة عن صورة ظلية لعدة أشخاص معا . كبير ،صغير،شاب ، عجوز لا
أحد منهم كان من جنس معين ،لأنهم كانوا جميعا عبارة عن صور ظلية . كان هناك الكثير
منهم لدرجة أني لم أتمكن من عدهم . كان هناك حس للحب الغير المشروط في كل مكان هناك
. أردت أن أكمل . كنت أود أن أعرف ما هو ذالك المكان . أردت أن أنتمي إليه . بعد أن
أصبحت على مقربة منهم . ظهر لي شيء كالضباب الأبيض كان يزاح من أمامي الشيء الذي
مكنني من الرؤية أكثر وضوحا من قبل . في ذالك الوقت تقريبا ، اقترب مني شخص يبدوأنه
امرأة ، اقتربت مني بالقدر الكافي لتمسك يدي . لا أعلم ، أحسست بالحب تجاهها في
الوقت الذي وقعت عيني على عينيها . وكان لدي شعور أكيد بأنها أيضا تحبني و تتقبلني
. أما باقي الناس كانوا لا يزالون يقفون حيث كانوا . كانوا يظهرون و كأنهم يتكلمون
مع بعضهم البعض . تحدثنا أنا وتلك السيدة لبعض الوقت ، و لكن لا أتذكر ماذا دار
بيننا . عندها كنت أفتح عيناي ، و رأسي كان يميل نحو الأسفل . كنت أسعى لأن أرفع
رأسي للأعلى لكي أتمكن من رؤية المكان الذي كنت فيه ، لكن رأسي كان مائلا في زاوية
لا تمكنني من رفعه . التفتت عن يميني فرأيت غريبا يقف هناك لم أره من قبل . قال "
مرحبا من المؤكد أنكي لستي مرتاحة هكذا . سوف أرفع لكي رأسكي " بعدها قال : " لقد
أرعبتينا تماما ، أيتها السيدة الشابة " . هذا الرجل كان نفسه ذالك الطبيب الذي قام
بجعل قلبي ينبض من جديد . لا أتذكر أني كنت أرغب بالحديث . كنت احس بالحزن و الفراغ
. كنت مرتبكة . أغمضت عيناي لأني كنت أود أن يعود إلي ذالك الإحساس الجميل الذي كنت
للتو أشعر به . كنت أريد ذالك البياض و كل شيء آخر يتواجد هناك . ولكن عندما أغمضت
عيناي لم يحصل ذالك .
لم أفهم شيئا مما حصل
مطلقا ، الى غاية يوم كنت أشاهد التلفاز ليلا ، فصادفت شخصا كان قد عاش تجربة
الاقتراب من الموت . و بمرور الوقت ، بدأت أدرك أن هذا ما حصل لي أيضا . هذا يعتبر
من المواضيع التي لا تدور حولها المحادثات أبدا ، لذالك لم أكن أعرف شيئا عن هذا
الموضوع لغاية مشاهدتي لذالك البرنامج التلفزيوني الذي قام بفتح عيناي . كلما شاهدت
مثل هذه الأشياء و التجارب أكثر في التلفاز ، كلما زاد يقيني و إدراكي بما حصل لي
سنة 1992 . عندما حاولت أن أتحدث الى الناس بخصوصه ، انتابتني بعض الشكوك حول إذا
ما كنت قد مررت فعلا بما أحكيه لهم أم أني كنت فقط أحلم بذالك . منذ ذالك اليوم ،
تغيرت نظرتي و أفكاري حول العديد من الأشياء . قمت بالتحدث لنوعين مختلفين من الناس
قبل أن يفارقوا الحياة و شاركتهم تجربتي رغبة مني في مساعدتهم للتخلص من الخوف تجاه
الموت . استطعت تكوين علاقة جادة مع رجل شاب كان قد توفي قبل عدة أشهر . استطعنا
التحدث عن الموت مع بعضنا البعض لأنه كان يعيش لحظاته الأخيرة جراء التليف الكيسي .
لا أعلم لماذا أنا أعيش
اليوم . حياتي ليست على أفضل حال . لازلت أعيش كما كنت أعيش في السابق ، و بمرور
الوقت يزداد مرضي سوءا ، و الآن سأضيف للائحتي المرضية أمراض القلب أيضا . لا زلت
أحتاج للعون و المساعدة من وقت لآخر . قبل بضعة أشهر احتجت للمساعدة في دخولي و
خروجي من حوض الاستحمام . لكن يداي ترتجفان الآن ، إذن فوظائفي أصبحت محدودة الآن .
إذا ما تناولت أي طعام ، يجب أن أدخل الحمام بعد ساعة من أكلي لأني لا استطيع ان
ابقي على أي طعام تناولته . الآن أنا أعيش عالة على مركز الإعاقة و الصحة الجماعية
. مركز الإعاقة و الصحة الجماعية لا يوفر لي كل احتياجاتي التي احتاجها لنفسي ، و شقتي لا تتوفر على القدر الكافي من الطعام الذي يجب أن تتوفر عليه . لن
أتخلى أبدا عن كلبي و قطتي من أجل أن أحظى بالأكل الجيد ، لأنهما يعتبران الوحيدان
اللذان أملك لكي أمنحهم الحب و أحظى منهم بالحب يوميا . حيواناتي لا تتخلى عني
عندما أكون مريضة . هم دائما بجانبي ليحبوني ، بغض النظر عن الحالة التي أكون فيها
. هكذا ، و نظرا لأوضاعي المادية ، لا أستطيع أبدا أن أشتري الآيس كريم في يوم حار
من المحلبة . هناك عدة أوقات و بسبب توفري على حياة لا تحقق لي كل ما أطمح إليه ،
مع فقدان الحب و الناس في حياتي ، تجعلني وحدتي هذه أبكي و أصرخ للسماء لكي تريني
ماذا أفعل هنا . لماذا عدت إلى هنا ؟ أعاني كثيرا من مرضي الجسدي ، أو مرض الوحدة -
و في بعض الأحيان أعاني منها جميعا . لا أعلم ماذا علي أن أفعل بنفسي .
قبل أن أمر بتجربتي تلك
، كنت قد بقيت مع والدتي في المستشفى عندما كانت تفارق الحياة بسبب السرطان . في
ذالك الصباح الذي فارقت فيه الحياة ، سمعتها أخدت نفسا عميقا ، و رأيت حينها عينيها
انفتحت على مصراعيها . كانت تتطلع لنواحي الغرفة في ذهول و دهشة . ركضت آنذاك و
ناديت الطبيب ، و بينما كان ينصت لدقات قلبها دقات قلبها الأخيرة ، كنت أنا أتساءل
عن ماذا كانت والدتيتراه مما جعل
عبارة الدهشة تلك تظهر على وجهها . كانت لم تفتح عينيها أبدا خلال الأسابيع القليلة
الماضية قبل ذالك اليوم. إذن فبعد أن مررت بتلك التجربة بعد سنة ، في عام 1992 ،
اكتشفت الشيء الذي كانت قد رأته والدتي عندما فارقت الحياة يوم 1 ديسمبر سنة 1991 .
ابنتي هي السبب الذي منعني من الانهيار . ابنتي هي السلام المتحرك الذي
منحتني إياه السماء . في بعض الأيام أفكر في الموت . في الحقيقة ، أتمنى لو يحدث
ذالك . لكن ، لم أعد قادرة أبدا حتى على التفكير في الانتحار . لا أستطع أبدا أن
أقتل حتى ذبابة أو نملة إذا ما دخلت إلى منزلي . الأشياء التي تطير داخل منزلي
أمسكها و أضعها خارجا . البق هو الآخر ، لم تتح لي معه مشكلة حتى الآن ، لذالك أضعه
خارجا كذالك . أنا قلقة من أن الانتحار من الممكن أن لا يعود بي الى المكان الذي
كنت فيه من قبل سنة 1992 ، و أنا أريد أن أفعل كل ما بوسعي لكي أعود الى ذالك
المكان عندما يحين الوقت لذالك . إذن ، بغض النظر عن مدى صعوبة و قساوة الحياة هنا
، سأجلس هنا و أنتظر . لان الموت ليس هو نهاية الحياة . الموت هو حياة تختلف عن هذه
الحياة ، و عن العالم بأسره أيضا . سأنتظر إلى أن يحين وقت ذهابي . أشكر كل أشخاص
هذا الموقع لمنحهم إياي الإحساس بالانتماء و الشعور بالارتباط بالناس من جديد .